لما انطلق بخت نصّر بالسّبي والاسارى من بني إسرائيل وفيهم دانيال وعزير عليهما السلام وورد أرض بابل.
ثمّ إنّه رآى رؤيا عظيماً امتلأ منها رعباً ونسيه، فجمع قومه وقال:
تخبروني بتأويل رؤياي المنسيّة إلى ثلاثة أيّام وإلاّ لأصلّبنّكم، وبلغ دانيال ذلك من شأن الرّؤيا وكان في السّجن فقال لصاحب السّجن:
إنّك أحسنت صحبتي ، فهل لك أن تخبر الملك أنّ عندي علم رؤياه وتأويله؟ فخرج صاحب السّجن ، وذكر لبخت نصّر فدعا به .
وكان لا يقف بين يديه أحد إلاّ سجد له، فلمّا طال قيام دانيال وهو لا يسجد له ، قال للحرس: اخرجوا واتركوه، فخرجوا فقال:
يا دانيال ما منعك أن تسجد لي؟
فقال: إنّ لي ربّاً آتاني هذا العلم على أنّي لا أسجد لغيره، فلو سجدت لك انسلخ عنّي العلم فلم ينتفع بي، فتركت السّجود نظراً إلى ذلك .
قال بخت نصّر: وفيت لإلهك فصرت آمناً منّي فهل لك علم بهذه الرّؤيا؟
قال: نعم، رأيت صنماً عظيماً رجلاه في الأرض، ورأسه في السّماء، أعلاه من ذهب ووسطه من فضّة وأسفله من نحاس وساقاه من حديد ورجلاه من فخار، فبينا أنت تنظر إليه وقد أعجبك حسنه وعظمه واحكام صنعته وأصناف الّتي ركّبت فيها، إذ قذفه بحجر من السّماء، فوقع على رأسه، فدقّه حتّى طحنه فاختلط ذهبه وفضّته ونحاسه وحديده وفخاره، حتّى خيّل لك أنّه لو اجتمع الجنّ والإنس على أن يميّزوا بعضه من بعض لم يقدروا، حتّى خيّل لك أنّه لو هبّت أدنى ريح لذرّته لشدّة ما انطحن، ثمّ نظرت إلى الحجر الّذي قذف به بعظم فينتثر حتّى ملأ الارض كلّها فصرت لا ترى إلاّ السّماء والحجر .
قال بخت نصّر: صدقت، هذه الرّؤيا الّتي رأيتها، فما تأويلها .
قال دانيال عليه السلام: أمّا الصّنم الّذي رأيت، فانّها اُمم تكون في أوّل الزّمان وأوسطه وآخره، وأمّا الذّهب فهو هذا الزّمان، وهذه الاُمّة الّتي أنت فيها وانت ملكها، وأمّا الفضّة فانّه يكون ابنك يليها من بعدك، وأمّا النّحاس فاُمّة الرّوم، وامّا الحديد فأمّة فارس، وأمّا الفخار فأمّتان تملكهما امرأتان: إحداهما في شرقيّ اليمن، واُخرى في غربيّ الشّام. وأمّا الحجر الّذي قذف به الصّنم، فدين يفقده الله به في هذه الامّة آخر الزّمان ليظهره عليها، يبعث الله نبيّاً اُميّاً من العرب فيذلّ الله له الأمم والأديان ، كما رأيت الحجر ظهر على الأرض فانتثر فيها.
فقال بخت نصّر: ما لأحد عندي يد أعظم من يدك، وأنا أريد أن أجزيك. إن أحببت أن أردّك إلى بلادك وأعمرها لك، وإن أحببت أن تقيم معي فأكرمك.
فقال دانيال عليه السلام : أمّا بلادي أرض كتب الله عليها الخراب إلى وقت والإقامة معك أوثق لي .
فجمع بخت نصّر ولده وأهل بيته وخدمه وقال لهم: هذا رجل حكيم قد فرّج الله به عنّي كربة قد عجزتم عنها، وقد ولّيته أمركم وأمري، يا بنيّ خذوا من علمه، وإن جاءكم رسولان أحدهما لي والآخر له، فأجيبوا دانيال قبلي، فكان لا يقطع أمراً دونه .
ولمّا رآى قوم بخت نصّر ذلك حسدوا دانيال ، ثمّ اجتمعوا إليه وقالوا : كانت لك الأرض ويزعم عدوّنا أنّك أنكرت عقلك.
قال: إنّي أستعين برأي هذا الإسرائيلي لإصلاح أمرك، فإنّ ربّه يطلعه عليه.
قالوا: نتّجذ إلهاً يكفيك ما أهمّك وتستغني عن دانيال.
فقال: أنتم وذاك، فعملوا صنماً عظيماً وصنعوا عيداً وذبحوا له، وأوقدوا ناراً عظيمة كنار نمرود، ودعوا النّاس بالسّجود لذلك الصّنم، فمن لمن يسجد له اُلقي منها .
وكان مع دانيال عليه السلام أربعة فتية من بني إسرائيل: يوشال ، ويوحين ، وعيصوا ومريوس. وكانوا مخلصين موحّدين، فاُتي بهم ليسجدوا للصّنم.
فقالت الفتية: هذا ليس بإله، ولكن خشبة ممّا عملها الرّجال، فإن شئتم أن نسجد للّذي خلقها فعلنا، فكتّفوهم ثمّ رموا بهم في النّار .
فلمّا أصبحوا طلع عليهم بخت نصّر فوق قصر، فإذا معهم خامس وإذا بالنّار قد عادت جليداً فامتلأ رعباً فدعا دانيال عليه السلام فسأله عنهم.
فقال: أمّا الفتية فعلى ديني يعبدون إلهي ولذلك أجارهم ، والخامس بحر البرد ارسله الله تعالى جلّت عظمته إلى هؤلاء نصرة لهم، فأمر بخت نصّر فاُخرجوا، فقال لهم:
كيف بتّم؟ قالوا: بتنا بأفضل ليلة منذ خلقنا، فالحقهم بدانيال، وأكرمهم بكرامته حتّى مرّت بهم ثلاثون سنة.
ثمّ إنّ بخت نصّر رآى رؤيا أهول من الرّؤيا الأولى ونسيها أيضاً، فدعا علماء قومه قال: رأيت رؤيا أخشى أن يكون فيها هلاككم وهلاكي، فما تأويلها فعجزوا وجعلوا علّة عجزهم دانيال عليه السلام ، فأخرجهم ودعا دانيال عليه السلام فسأله ؟
فقال: رأيت شجرة عظيمة شديدة الخضرة فرعها في السّماء عليها طير السّماء، وفي ظلّها وحوش الارض وسباعها، فبينما أنت تنظر إليها قد أعجبك بهجتها، إذ أقبل ملك يحمل حديدة كالفاس على عنقه، وصرخ بملك آخر في باب من ابواب السّماء يقول له :كيف أمرك الله أن تفعل بالشّجرة أمرك أن تجتثّها من أصلها؟ أم أمرك أن تأخذ بعضها؟
فنادان الملك الأعلى إنّ الله يقول: خذ منها وأبق ، فنظرت إلى الملك حتّى ضرب رأسها بفاسه، فانقطع وتفرّق ما كان عليها من الطّير، وما كان تحتها من السّباع والوحوش ، وبقي الحذع لا هيئة له ولا حسن .
فقال بخت نصّر: فهذه الرؤيا رأيتها، فما تأويلها؟
قال : أنت الشّجرة، وما رأيت في رأسها من الطّيور فولدك وأهلك، وأمّا ما رأيت في ظلّها من السّباع والوحوش فخولك ورعيّتك وكنت قد أغضبت الله فيما تابعت قومك من عمل الصّنم، فقال بخت نصّر: كيف يفعل ربّك بي؟ قال : يبتليك ببدنك ، فيمسخك سبع سنين، فإذا مضت رجعت إنساناً كما كنت أوّل مرّة .
فقعد بخت نصّر يبكي سعة أيّام، فلمّا فرغ من البكاء ظهر فوق بيته، فمسخه الله عقاباً فطار، وكان دانيال عليه السلام يأمر ولده وأهل مملكته أن لا يغيّروا من أمره شيئاً حتّى يرجع إليهم، ثمّ مسخه الله في آخر عمره بعوضة، فأقبل يطير حتّى دخل بيته، فحوّله الله إنساناً فاغتسل بالماء ولبس المسوخ .
ثم أمر بالناس، فجمعوا، فقال: إنّي وإيّاكم كنّا نعبد من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرّنا، وأنّه قد تبيّن لي من قدرة الله تعالى جلّ وعلا في نفسي أنه لا إله إلاّ الله إله بني إسرائيل، فمن تبعني فإنّه منّي وأنا وهو في الحقّ سواء، ومن خالفني ضربته بسيفي حتّى يحكم الله بيني وبينكم، وإنّي قد أجّلتكم إلى اللّيلة، فإذا أصبحتم فأجيبوني، ثمّ انصرف ودخل بيته وقعد على فراشه ، فقبض الله تعالى روحه .
إرميا عليه السلام