يحكى أن هارون الرشيد حج ماشياً وإن سبب ذلك أن أخاه موسى الهادي كانت له جارية تسمى (غادر) و كانت أحظى الناس عنده و كانت من أحسن النساء وجهاً و غناء.
فغنت يوماً و هو مع جلسائه على الشراب ، إذ عرض له سهو و فكر و تغير لونه و قطع الشراب.
فقال الجلساء: ما شأنك يا أمير المؤمنين؟
قال: لقد وقع في قلبي أن جاريتي (غادر) يتزوجها أخي هارون بعدي.
فقالوا: يطيل الله بقاء أمير المؤمنين ، و كلنا فداؤه.
فقال: ما يزيل هذا ما في نفسي.
و أمر بإحضار هارون و عرفه ما خطر بباله ، فاستعطافه و تكلم بما ينبغي أن يتكلم به في تطييب نفسه ، فلم يقنع بذلك و قال : لا بد أن تحلف لي.
قال هارون: لأفعل ، و حلف له بكل يمين يحلف بها الناس من طلاق و عتاق و حج و صدقة و أشياء مؤكدة فسكن.
ثم قام، فدخل على الجارية فأحلفها بمثل ذلك ، ولم يلبث شهراً ثم مات .
فلما أفضت الخلافة إلى هارون ، أرسل إلى الجارية يخطبها.
فقالت: يا سيدي كيف بأيمانك و أيماني؟
فقال: أحلف بكل شيء حلفت به من الصدقة و العتق و غيرهما إلا تزوجتك ، فتزوجها و حج ماشياً ليمينه.
و شغف بها أكثر من أخيه حتى كانت تنام فيضجع رأسها في حجره و لا يتحرك حتى تتنبه، فبينما هي ذات ليلة إذ انتبهت فزعة.
فقال لها: ما لك؟
فقالت: رأيت أخاك في المنام الساعة و هو يقول:
أخلفــت وعـدك بعدمــا *** جـاورت سكـان المقابــر
و نسيتني، و حنـثـت فــي *** ايمانك الكذب الفواجـر
فظللـت في أهـل البــلاد *** و غـدوت فـي الحور الغرائر
و نكحــت غـادرة أخـي! *** صدق الذي سمـاك غــادر
لا يهنـك الإلـف الجديــد *** و لا تـدر عنـك الـدوائــر
و لحقت بي قبـل الصبــاح *** و صرت حيث غدوت صائـر
والله يا أمير المؤمنين، فكأنها مكتوبة في قلبي، ما نسيت منها كلمة.
فقال الرشيد: هذه أضغاث أحلام.
فقالت: كلا والله ما أملك نفسي.
وما زالت ترتعد حتى ماتت بعد ساعة.