محمد مهدي الجواهري – دجلة في الخريف

بكَرَ ” الخريفُ ” فراح يُوعِدهُ أنْ سوفَ يُزْبِدُهُ ويُرْعِدُهُ

وبَدَتْ من الأرماث ، عائمةً فيه ، طلائعُ ما يُجَنِّدُه

وكأنَّ ، من زَبَدِ الرِّمال على أمواجه ، طِفْلاً يُهَدْهِده

واستَثْقَلَ النوتيُّ مِجْذَفَه بَرِماً بمِقبَضه يُجَدِّده

وتحفَّزَتْ شُمُّ الجبال لهُ بثُلوجها كِسفَاً تُهدِّده

ظلَّتْ تَعُدُّ خُطاه تَرقُبُه في الصيفِ مُزدهراً وتحسُده

جَرداءُ ، وهو يَضِجُّ مَلْعَبُهُ ظَلْماءُ ، وهو يُشَبُّ مَوقِده!

خرَساءُ ، والأنعامُ تُرقصهُ وكأنَّها بالموج تَرفِده

تَتَعَثَّرُ الأجيالُ خالدةً فيها .. ويَحضُنُها مُخَلَّده

” داودُ ” بالمزمارِ يُوقِظه ويُنيمُهُ بالعُود ” مَعبده “

والهِيمُ تخزُنُهُ وتنهبُهُ والغِيدُ تُنزِلهُ وتصُعِده

ألْقَتْ إليه مِن مفاتِنِها ما ليسَ إلاَّ اللهُ يَشهَده

ورمَتْ له يقظانَ مِن مُتَعٍ ما نحنُ في الأحلامِ نَنشُده

والنجمُ حارسُها وحارسُه والظلُّ موعدُها وموعده

الآنَ أُدْرِكُ سِرَّ زَفْرتهِ إذ لم يَعُدْ سِرّاً تَجَلّده

فَلفَقدِه نَفَساً تَنَفُّسُهُ ولذِكره نَهداً تَنَهَّده

يتَعقَّبُ المسكينُ موجَتَها عَبَثاً بمَوْجتهِ وتطْرُده

لم يَدْرِ حتى الآنَ شِيمتَها حسِبَ الهوى نَغَماً يُردِّده

أمسِ استطابتْ فيه مَقصِدَها واليومَ أهونُ منه مَقصِده

لو يستطيعُ لَرَدَّ خُضرتَهُ وبرغْمِ سَفْحَيْهِ تورَّده

وبرغْمهِ أنْ حبَّ خابِطُهُ للزارعينَ وذُمَّ مَورده

ماسرَّهُ ” والبِيضُ ” تُنْكِرهُ أنَّ المراعي الخُضْرَ تَحْمَده!

فالذكْرَياتُ الغُرُّ يَشهدُها رقراقُهُ الصافي وتَشْهَده

مُتطامِنٌ لم تُخْشَ صَولتُه لكبْ تَضيقُ بصائِلٍ يَده

فمِنَ الشَّمال يدٌ وتُنْهِضُهُ ومِنَ الجَنوب يدٌ وتُقْعِده

كالنَّاسِ للحُفُراتِ مَرجِعُه ومِنَ النِّطافِ النُزْرِ مولِده

وخُضوعُهُ كخُضوعهمْ أبداً للغيبِ أنَّى سارَ يقصده

والفَصلُُ ، دونَ الفَصلِ ، يُنْعشُهُ والأرضُ ، دون الأرض ، تُسعِده

لَغِبٌ فلا الإِمساءُ يُوسِعُهُ عَطْفاً ، ولا الإِصباحُ يُنجِده

النجمُ أعمى لا يرافِقُهُ والطيرُ أخرَسُ لا يُغرِّده

مُتحَيِّرٌ لا يستَحِمُّ بهِ فَلَكٌ ولا الأضواءُ تُرشِده

وكأنَّ مُحتَشَدَ الضَّبابِ بهِ بابٌ بوجهِ الشُهْبِ يُوصِده

والشَّمسُ فاترةٌ تُذَكِّرهُ وضَحَ السَّنا أيَّامَ تُوقِده

أيَّامَ تنفُخُ في قَرارتهِ من رُوحها نَفَساً تُجَدِّده

والبدرُ .. حتى البدرُ يُوحشه في يومِ محنتهِ ويُفرده

هذا الذي ما كانَ مِثلَهما للصيفِ من مَثَلٍ يُخَلِّده

كانا يَرُبَّانِ الغرامَ معاً ذا يَصْطَفيهِ ، وذا يُهَدْهِده

لم يبقَ من هَرَجِ الربيع بهِ الا الذي قد فات أجوده

ومن العريشِ على شواطئه إلاّ خُشَيْبات تحدِّده

ركبٌ تحمل عنه ناشطهُ واقام عاجزُه ومُقْعَده

والسامرُونَ انفضَّ عُرْسُهُمُ لا جِدُّهُ أغنى ، ولا دَده

حجَلَ الغُرابُ على مواقِدهمْ وعلى الرَّمادِ بها يُلَبِّده

ومنَ الحَمامِ أظَلَّهُ زَجِلٌ كَلِفٌ بلحنِ الصَّيفِ يُنْشِده

ضَنْكُ المسَفَّةِ يَدَّني عَطَشاً وتَموُّجُ الآذيِّ يُبعِده

مُتَسائلاً بشمَ حالَ رَيِّقُهُ عن حُرِّ لونٍ كان يَعهَده!؟

وعلى الضِّفافِ، البطُّ مُنكمِشٌ لاهٍ بذاوي النبتِ يَعضِده

شَعْثُ النَّسيل ، كأنَّ عابثةً مَجنونةً راحتْ تُبدِّده

ما الصَّيفُ سبَّطَ من جَدائلِه جاءَ الخريفُ له يُجَعِّده!

بادي الخُمولِ يؤودُه عُنُقٌ في أمس ، من زهْوٍ ، يُمدِّده!

وكأنَّه ، إذ خِيفَ مَسبَحُه مُتَرِّهبُ قد سُدَّ مَعْبَده!

أتُرى يعودُ غداً لِمَلْعَبهِ لأمْ لا يعودُ كأمسه غده؟!

وتهضَّمَ النُوتيُّ زورقَه بالقار، بعد الغِيد، يَحشُده

يقتاتُ من كِسَرٍ يُثَبِّتثها في اللوح ، أو حَبلٍ يُمَسِّده

لم أدْرِ لو لم تُنبِني سُرُجٌ في شاطئيه ِ ، أينَ مَرقده

ومَضَتْ .. فقلتُ : النّومُ أعوزَه وجُفونُه ، رُمْداً ، تُسَهِّده!

وخَبَتْ .. فقلتُ : غفا ، وإنَّ صَدىً في السَّمْعِ من زَفْرٍ يُصَعِّده!

وكأنَّ تابوتاً يُعِدُّ لهُ مَلاَّحُه فيما يُنَضِّده

وحسِبتُ مِزماراً يُشَيَّعُه للقبرِ ، مسماراً يُشَدَّده

وتجاوُبَ الأجْراءِ قافيةً سمحاءَ باكيةً تُمَجّده!

يا صامتاً عِيّاً ، ومَنْطِقُهُ مُتَفَجِّرُ اليَنْبُوع سَرْمَده

تَهفو فرائدُ عِقدهِ جَزَعاً مما بها ، وتهيمُ شُرَّده

وتُثيرُ فيه الذكرياتُ شجاً يَعيا به فيَخُورُ أيِّده

ومُوَكَّلاً بالدَّهر ، يَزرعُهُ في شاطئيه ثمَّ يحصُده

يا شَطُّ ، أنتَ أعزُّ مُنقَلباً في الناطقينَ بما تُخَلِّده

وكذا الطبيعةُ في عناصرها جِنٌّ حَبيسُ الرُّوحِ مجهَده!

نَرتادُ جامدَها نُفَجِّرُه وعقيمَ غامضِها نُوَلَّده

فلعلَّ ذا ، ولعَّلها لُغةٌ من غيرِ ما جرْسٍ نعوَّده

ولربَّما ضَحِكتْ بسائطُها هُزْءاً بنا ممَّا نُعَقِّده

Comments are closed.