ما بين الموت والبرزخ – القبر
هذه ساعات العبرة حيث نجد الميت مسجىّ على فراشه أو على الأرض جثة هامدة لا حراك فيها.
فقدت البهاء والجمال وتحولت النضارة في الوجه إلى شحوب وتحول الاحمرار إلى صفرة واسوداد.
لا ماله ينفعه ولا منصبه، وأهله من حوله يبكون لا يستطيعون أن يفعلوا له شيئا، والطبيب تنتهي مهمته بالعجز الكلي عن فعل أي شيء.
وكل ما خوله الله سبحانه به في الحياة تركه ولم يعد ينفعه بشيء، وصدق الله تعالى إذ يقول:
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
سورة الأنعام، الآية:94
فقد انتهت فترة الامتحان التي ترككم فيها الله سبحانه تفعلون ما تشاؤون باختياركم المطلق، واليوم انقطع عنكم أسباب الاختيار وسلمتم الأرواح إلى بارئها.
وأما بهاؤكم وجمالكم في أجسادكم فسيتحول إلى جيفة بعد عدة أيام.
وكم من الظالمين وحماتهم الذين يبلغون الآلاف لا يستطيعون أن يفعلوا لهم شيئا بعد أن كان بإشارة منه يهرعون إليه لتنفيذ أمره إما خوفا منه أو طمعا في عطاياه.
وقد تحدى الله سبحانه البشرية كلها في إرجاع میت واحد إلى الحياة. قال تعالى:
فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ
سورة الواقعة، الآيتان: ۸۹، ۸۷
وفي هذه اللحظات وقبل أن يُغسل الميت ويكفن يُحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحدث للعبد في تلك اللحظات مبينة حالة المؤمن الصالح وحالة الكافر والعاصي.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة.
نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر.
ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان.
قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في – أي فم – السقاء – أي بسهولة ورفق – فيأخذها – أي ملك الموت.
فإذا أخذها لم يدعوها – أي لم يتركوها – في يده طرفة عين حتى يأخذوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على سطح الأرض.
فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟
فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا.
حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة.
فيقول الله تعالی:
اکتبوا کتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى.
قال: فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله.
فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام.
فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هو رسول الله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت.
فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة.
قال : فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له من قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح.
فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الذي يأتي بالخير ، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول العبد الميت : رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي.
قال رسول الله : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الآخرة وإقبال من الدنيا
نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح (أي الجلود الغليظة) فيجلسون منه مد البصر.
ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب.
قال: فتفرق في جسده فينزعها كما ينزع السفود (أي حديدة ذات شوك) من الصوف المبلول، فيأخذها ملك الموت ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في المسوح فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض.
فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون:
فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء فيستفتح له فلا يفتح، ثم قرأ رسول الله:
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ
سورة الأعراف، الآية: 40
فيقول الله تعالی: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ رسول الله:
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
سورة الحج، الآية:31
فتعاد روحه إلى جسده ويأتيه ملكان ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري.
فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري.
فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه القبر حتى تختلف فيه أضلاعه.
ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد.
فيقول: من أنت فوجهك القبيح يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة.
رواه الإمام أحمد في مسنده
الموت وعالم البرزخ
ماهر أحمد الصوفي
المكتبة العصرية