عالم الانسانية .. عالم عميق ..الأغوار .. عالم غامض ومجهول.
كثيرون من البشر يتصورون أنفسهم صغاراً محدودين لكننا لو أصغينا إلى هؤلاء وتساءلنا معهم عن شعور بالبداية أو إحساس بالنهاية لقلما وجدنا منهم من يذكر له بداية أو تخطر في باله نهاية.
ان المرء يكاد ينكر أن تكون بدايته لحظة الميلاد ويكاد يرفض في الوقت نفسه أن يكون الموت هو النهاية.
هذا الاحساس المتجذر في الذات قد يكون أول الأدلة على أن تاريخ الانسان روحياً يمتد إلى ماض سحيق أما مستقبله فسوف يستمر إلى ما شاء الله وما الدنيا إلّا مرحلة عابرة في مسار طويل .. طويل جداً.
يقولون إن الشعور بالظمأ أكبر دليل على وجود الماء.. والشوق إلى الخلد دليل على وجود عالم الخلد.. وإن الانسان أكبر مما نتصور يقول الامام علي :
دواؤك فيك وما تبصر
وداؤك فيك وما تشعر
وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
الانسان مخلوق من طين من صلصال من حمأ مسنون ثم نفخ الله فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها وسجدت له الملائكة كلهم أجمعون وكرّمه الله وخلقه في أحسن تقويم وشاءت ارادته سبحانه أن يُمتحن في عالم الدنيا، وأن يكتشف بنفسه الطريق إلى الله وأضاء الله له معالم الطريق .
يقول الامام علي عليه السلام : من عرف نفسه فقد عرف ربه.
اكتشاف الانسان نفسه یعنی اکتشافه البداية والمال .. نقطة الانطلاق وطريق العودة. وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وأن الدار الآخرة لهي الحياة الحق.
الدنيا مقطع عابر في عمر الانسان والدنيا بظروفها والمعاناة التي فيها تستحيل بالنسبة للنفوس التي تتطلع للحياة الحقيقية والخلود الأخضر إلى سجن وأن الكيان الانساني إنما يكمن في البناء الروحي، وما جسد الانسان إلا قفص أو رداء مثقل بالمادة والطين والأدران :
أنا عصفور وهذا قفصي
طرت عنه وبقى مرتهنا
أنا في الصور وهذا جسدي
كان ثوبي وقميصي زمنا
وأنا الآن أناجي ملاً
وأرى الله جهاراً علنا
لا تظنوا الموت موتاً إنه
ليس إلا نقلة من ههنا
انه من الظلم الكبير والسقوط أن يعتبر البعض تاريخ الانسان هو تاريخ البحث عن الطعام.. أو يقول :
انما الدنيا طعام
وشراب ومنام
فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام
كلا إن الانسان أعظم وأسمى من ذلك ان تاريخه هو تاريخ البحث عن الحقيقة عن الله عن البداية والمصير.
من كتاب بين يدي الاستاذ