التّماسك في شخصيّة عليّ
والأساس الذي ينزع عنه بآرائه وتعاليمه واحد لا يجور عليه رضاً أو غضب، ولا يزحزحه سلمٌ أو قتال ولا يبدل وجهَه وعد أو وعيد.
أما أقواله وأعماله فواحدة لا تتناقض ولا تتعارض، بل تنبع من معين واحد كما تنبع المياه من الأرض لا يتبدّل طعمها بين ليل ونهارا وهي لا تتجزأ، ولا يُفَسّر بعضُها إلا ببعض !
موضوعنا في البحث التالي هو المقابلة بين ما تحمل مبادئ الثورة الكبرى من الأسس العامة لحقوق الإنسان الطبيعية، وبين ما تحمله تعاليم على بن أبي طالب من مثل هذه الأسس ثم هو شيء من النظر في مواطن الاختلاف بين هذه وتلك بفعل اختلاف الزمان والمكــان والظروف والدوافع والحاجات وما إليها جميعاً.
وهو شيء من المقارنة كذلك بين مـا تحمل مبادئ الثورة الكبرى من الفروع والتخصيصات، وبين ما تحمله تعاليم ابن أبي طالب منها، وأين تختلف الفروع والتخصيصات بين هذه وتلك، وكيف، ولماذا. ثم إنه شيء من المقارنة بين الآراء والمفاهيم التي عاشها أدباء أوروبا قبل الثورة وخلالها وبين مثل هذه الآراء وهذه المفاهيم التي عاشها ابن أبي طالب.
وحجتنا الكبرى في هذه المقارنة ليست عثورنا على عبارة هـنـا وعبارة هناك لابـن أبي طالب تقابل في المعنى، تلميحاً أو تصريحاً، هذه العبارة أو تلك من المبادئ السبعة عشر التي تتألف منها وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية، والتي هي نتاج عمل الإنسانية المشترك خلال التاريخ جملةً. فتلك حجّة واهية في أكثر الأحوال. وقد أشرنا إلى هذا النوع من الحجة منذ قليل وأنكرنا على أصحابه ما يفعلون.
وإنما حجّتنا هي ما نراه في ابن أبي طالب من ما نراه في ابن أبي طالب من تماسك تام في الشخصيّة يجعل منه مفكّراً ذا أصول متلازمة وفروع منظمة الاتجاه. فهو وإن لم يلجأ في دستوره العام إلى الترقيم والتدريج في رصف المواد على نحو ما نرى في وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية، أو الوثيقة الدولية، أو غيرهما من الوثائق والدساتير الحديثة، إلّا أنّ هذا الترقيم وهذا التدريج في صوغ دستوره يمكننا، في شيء من الجهد، أن نحصل عليها. هذا مع الإشارة إلى أنّ ترقيماً وتدريجاً ضمنيين نجدهما في عهده إلى الأشتر النخعي وفي غيره من العهود. وطريقة الترقيم والتدريج هذه لم تكن على كل حال منهجاً في زمان ابن أبي طالب وفي بيئته، فإن العرب لم يعرفوها إلا بعد أن تُرجمت إلى العربية معارفُ الإغريق في الأعصر العباسية.
وهذا التماسك في شخصيّة ابن أبى طالب واضح ساطع حيث مشيت في دروب نهجه وأنى اتجهت. فإذا الفكرةُ الأساس التي يبنى عليها عهده لهذا الوالي هي الفكرة الأساس التي يبنى عليها عهدَه لكلِّ وال لا تناقض بين عهدين منهما ولا تضارُبَ، لا في الجذور العامة ولا في الفروع النامية عليها. ثم إنها هي نفس الفكرة الأساس التي بني عليها خطبته وقوله أمس قبل أن يستخلفه الثائرون، والتي يبني عليها خطبته وقوله اليوم وقد استُخلف، والتي سيبني عليها خطبته غداً في حالة السلم، وبعد غد في يوم الجمل وقد أصبح القتال قاعدة مناوئيه، وفي الغد الأبعد في أيّام صفّين وقد تألّب عليه أهل الوجاهات وأهل الغباء، وبعد ذلك في النهروان، وبعد النهروان في ساعة مقتله!
وهذا التماسك في شخصية ابن أبي طالب واضح ساطع كذلك في الفكرة الأساس التي يتوجّه بها إلى الصديق والعدوّ معاً، وإلى القريب والبعيد، والحازب والمحارب، لا قُرْبَ يدفَعُه في طريق التبديل والتغيير فى هذه الفكرة ولا مودّة ولا محازبة، ولا بُعْدَ يميل به عن هذه الفكرة ولا عداء ولا خصومة. فالأساس الذي ينزع عنه بآرائه وتعاليمه واحد لا يجــور عـلـيـه رضاً أو غضب، ولا يزحزحه سلم أو قتال، ولا يبدل وجهه وعد أو وعيد.
وهذا التماسك في شخصية ابن أبي طالب واضح ساطع في هذا التمازج المطلق بين تعاليمه وعهوده وخُطبه ووصاياه، وبين مسلكه نفسه الناس. وأزيد على ذلك فأقول: إن ابن أبي طالب لم يكن ينفّذ تعاليمه وأوامره بنفسه ليكون قدوة لغيره شأن الكثيرين من أصحاب التعاليم والأوامر. بل كان أسلوبه في ذلك أبسط وأعمق وأجل شأناً كان يحيا فكرته بقلبه ودمه قبل أن تُصبح فكرةً مصوغةً بألفاظ وتعابير، فإذا هي تنبثق عن حياته ومسلكه انبثاقاً طبيعياً صافياً لا يد فيه للصنعة ولا عمل فيه لحمل النفس على ما لا تطيق. وهذه الحقيقة عنه هي التي تُبعد الجفاف عن تعاليمه ودستوره وتكسبها حرارة وحناناً حتى لكأنها حديث الأب إلى ابنه أو مناجاة المرء لنفسه فهى بذلك ليست من صنع العقل وحده، بل يشترك في إبداعها العقل والخيال والعاطفة الدافئة الحنون. وتلك من آيات ابن أبي طالب.
وإنا لفي غنى عن إعطاء الأدلة الآن على هذا التماسك المطلق بين تعاليم ابن أبي طالب جميعاً من جهة، ثم بينها وبين مسلكه من جهة ثانية. ففي هذا الكتاب، في كلّ ما سبق من فصوله وفى كلّ ما هو لاحق، ألفُ دليل ودليل. ثم استمع إلى ابن أبي طالب يخاطب معاوية بن أبي سفیان قائلاً:
وأمّا طَلَبُك إليَّ الشام فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتُك أمس. وأما استواؤنا في الخوف والرجاء فإنك لست أمضى على الشكّ منى على اليقين».
ولماذا لم يُعطِ علي معاوية الشام بالأمس؟ لأن معاوية في حكم على «من أهل المكر والغدر، وأولي الجور والظلم ، وأكَلَةِ الرّشا، المشترين الغادر الفاسق بأموال الناس، الذين سَفِهوا الحق واختاروا الباطل، والذين لو ولّوا على الناس لأظهروا فيهم الغضب والفخر والتسلّط بالجبروت والفساد في الأرض».
ولان الوالي في حُكم على يجب ألا يغدر ولا يفجر ولا يجور ولا يظلم ولا يرتشي. وعليه أن يدرك أنّ الأموال العامة ليست طعمةً له بل هي للناس جميعاً. ثم إن عليّاً يكره في الولاة وفي غيرهم الغضب والفخر والتسلّط والجبروت والفساد في الأرض. لذلك كله لم يعط معاوية الشام بالأمس، ولم يعط أمثال معاوية الحجاز ولا اليمن!
ولماذا لا يُعطي عليّ معاوية الشام اليوم وقد أصبح خطراً عليه بما عنده من جيوش وبما التف حوله من زعماء ووجهاء، وبما تحت يديه من سلاح ومال؟ فلو أن زعيماً سياسياً غير على كان مكانه لَغَيّر وبدل وضرب صفحاً عن سيّئات معاوية وقربه وأعطاه الشام واكتسب ودّه في سبیل زعامته.
أما الجواب عن ذلك فواضح بسيط، وهو أنّ عليّاً مَنَع هذا العطاء عن معاوية بالأمس على أساس ذي حدود وشروط. وهو يمنعه اليوم على هذا الأساس بالذات «فالحق لا يبطله شيء» في نظر علي لأنه يقين. وليس من هو أمضى على اليقين من ابن أبي طالب الذي يقول: «لا تزيدني كثرة الناس حولي عزّةً ولا تفرّقهم عنى وحشةً، وما أكره الموت على الحق!» و«نوم على يقين خير من صلاة على شك» و«إذا تيقنتم فأقدموا». والذي يصف المنافق والمعتدي بهذا القول: «تغلبه نفسه على ما يظنّ ولا يغلبها على ما يستيقن!».
ومثل هذا التماسك نجده في شخصية على أنّى اتجهنا. فهو إن حنّك مثلاً على طلب المعرفة أنزل نفسه منك منزلة الأب من ابنه الذي يريده على هديه ومزاياه، أو منزلة المرء من ذاته، فإذا بصفة النصيحة تنتفى من نصائحه لتترك المجال إلى التعليم بالسيرة والمثل. وهو إذا حقك على طلب المعرفة فلأنّك إنسانٌ مُيّز عن البهيمة بمقدرته على أن يعرف.
الإمام علي صوت العدالة الإنسانية – المجلد الأول
جورج جرداق