إرميا عليه السلام و بخت نصّر

إنّ الله تعالى جلّ ذكره أوحى إلى نبيّ من الأنبياء يقال له: إرميا أن قل لبني إسرائيل:

ما بلد تنقّيته من كرائم البلدان وغرست فيه ممن كرائم الغرس ونقّته من كلّ غريبة فأنبت خرنوباً؟

فضحكوا منه فأوحى الله إليه، قل لهم:

إنّ البلد بيت المقدس والغرس بنو إسرائيل، نّحيت عنه كلّ جبّار فأخلفوا فعملوا بمعاصيّ. فلاُسلّطن عليهم في بلادهم من يسفك دماءهم ويأخذ أموالهم فان بكوا لم ارحم بكاءهم، وإن دعوني لم أستجب دعاءهم ثمّ لأخرّبنّها مائة عام ثمّ لأعمّرنّها .
فلمّا حدثهم جزع العلماء فقالوا: يا رسول الله ما ذنبنا ولم نعمل يعملهم؟

فقال: إنّك رأيتم المنكر فلم تنكروه، فسلّط الله عليهم بخت نصّر، وأغار على بيت المقدس.

وكان بخت نصّر منذ ملك يتوقّع فساد بني إسرائيل، ويعلم أنّه لا يطيقهم إلاّ بمعصيتهم، فلم يزل يأتيه العيون بأخبارهم، حتّى تغيّرت حالهم وفشت فيهم المعاصي، وقتلوا أنبياءهم.  

فلمّا رأوا بخت نصّر وجنوده أقبلوا فنزلوا بساحتهم، فزعوا إلى ربّهم وتابوا وثابروا على الخير، وأخذوا على أيدي سفهائهم، وأنكروا المنكر، وأظهروا المعروف، فردّ الله لهم الكرّة على بخت نصّر، وانصرفوا بعدما فتحوا المدينة.

ثمّ إنّ بني إسرائيل تغيّروا، فأخبرهم إرميا عليه السلام وأنّ بخت نصّر يتهيّأ للسير إليكم وقد غضب الله عليكم، وأنّ الله تعالى جلّت عظمته يستتيبكم لصلاح آبائكم ويقول:

هل وجدتم أحداً عصاني فسعد بمعصيتي أم هل علمتم أحداً أطاعني فشقي بطاعتي؟ وأمّا أحباركم ورهبانكم فاتّخذوا عبادي خولاً يحكمون فيهم بغير كتابي حتّى أنسوهم ذكري، وأمّا ملوككم وأمراؤكم فبطروا نعمتي وغرّتهم الدّنيا، وأمّا قرّاؤكم وفقهاؤكم فهم منقادون للملوك، يبايعونهم على البدع، ويطيعونهم في معصيتي وأمّا الأولاد فيخوضون مع الخائضين وفي كلّ ذلك اُلبسهم العافية، فلأبدلنّهم بالعزّ ذلاّ وبالأمن خوفاً، إن دعوني لم أجبهم وإن بكوا لم أرحمهم .
فلمّا بلّغهم ذلك نبيّهم فكذبوه وقالوا: لقد أعظمت الفرية على الله تزعم أنّ الله يعطّل مساجده من عبادته فقيّدوه وسجنوه.

فأقبل بخت نصّر وحاصرهم سبعة أشهرّ وبطش بهم بطش الجبّارين بالقتل، والصّلب، والأحراق، وجذع الأنوف، ونزع الألسن والأنياب، ووقف النّساء .
فقيل له: إنّ لهم صاحباً كان يحذّرهم بما أصابهم، فاتّهموه وسجنوه ، فأمر بخت نصّر فاُخرج من السّجن، فقال له أكنت تحذّر هؤلاء؟

قال: نعم.

قال: وأنّى اُعلمت ذلك؟ 

قال: أرسلني الله به إليهم.

قال: فكذبوك وضربوك؟

قال: نعم.

قال: لبئس القوم قوم ضربوا نبيّهم، وكذبوا رسالة ربّهم، فهل لك أن تلحق بي فاُكرمك؟ وإن أحببت ان تقيم في بلادك أمنتك، قال إرميا عليه السلام: إنّي لم أزل في أمان الله منذ كنت لم أخرج منه، ولو أنّ بني إسرائيل لم يخرجوا من أمانه لم يخافوك.
فأقام مكانه بأرض إيليا، وهي حينئذ خراب قد هدم بعضا، فلمّا سمع به من بقي من بني إسرائيل اجتمعوا إليه، وقالوا: عرفنا أنّك نبيّنا فانصح لنا، فأمرهم أن يقيموا معه، فقالوا: ننطلق إلى ملك مصر نستجير. فقال إرميا عليه السلام: إنّ ذمة الله أوفى الذّمم، فانطلقوا إلى مصر وتركوا إرميا، فقال لهم الملك: أنتم في ذمّتي، فسمع ذلك بخت نصّر، فارسل إلى ملك مصر ابعث بهم إليّ مصفّدين وإلاّ آذنتك بالحرب .
فلمّا سمع أرميا بذلك أدركته الرّحمة لهم، فبادر إليهم لينقذهم فورد عليهم، وقال: إنّ الله تعالى أوحى إليّ أنّي مظهر بخت نصّر على هذا الملك، وآية ذلك أنّه تعالى أراني موضع سرير بخت نصّر الّذي يجلس عليه بعدما يظفر بمصر، ثمّ عمد فدفن اربعة أحجار في ناحية من الارض، فسار إليهم بخت نصّر وظفر بهم وأسرهم ، فلمّا اراد أن يقسّم الفيء ويقتل الاسارى ويعتق منهم كان فيهم إرميا .
فقال له بخت نصّر: اراك مع أعدائي بعدما عرضتك من الكرامة، فقال له إرميا عليه السلام: إنّي جئتهم مخوّفاً أخبرهم خبرك، وقد وضعت لهم علامة تحت سريرك هذا وأنت بارض بابل، ارفع سريرك فانّ تحت كلّ قائمة من قوائمه حجراً دفنته بيدي وهم ينظرون، فلمّا رفع بخت نصّر سريره وجد مصداق ما قال، فقال لأرميا : إنّي لأقتلهم إذ كذبوك ولم يصدّقوك ، فقتلهم ولحق بأرض بابل .

دانيال عليه السلام

Comments are closed.